كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكانت الخطة التي وجه الله إليها نبيه صلى الله عليه وسلم في معاملة المنافقين، هي أخذهم بظاهرهم- لا بحقيقة نواياهم- والإعراض والتغاضي عما يبدر منهم.. وهي خطة فتلتهم في النهاية، وأضعفتهم، وجعلت بقاياهم تتوارى ضعفًا وخجلًا.. وهنا طرف من هذه الخطة:
{فأعرض عنهم}.
ومع هذا التوجيه بالإغضاء عنهم، التطمين بكلاءة الله وحفظه مما يبيتون:
{وتوكل على الله.. وكفى بالله وكيلًا}.
نعم.. وكفى بالله وكيلًا. لا يضار من كان وكيله؛ ولا يناله تآمر ولا تبيت ولا مكيدة.
وكأنما كان الذي يدفع هذه الطائفة إلى أن تقول في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع القائلين: {طاعة} فإذا خرجت بيتت غير الذي تقول.. كأنما كان هذا بسبب شكهم في مصدر ما يأمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وظنهم أن هذا القرآن من عنده! وحين يوجد مثل هذا الشك لحظة يتوارى سلطان الأمر والتكليف جملة. فهذا السلطان مستمد كله من الاعتقاد الجازم الكامل، بأن هذا كلام الله، وبأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.. ومن ثم كان هذا التوكيد الشديد الجازم المكرر على هذه الحقيقة.
وهنا يعرض عليهم القرآن خطة، هي غاية ما يبلغه المنهج الرباني من تكريم الإنسان والعقل الإنساني، واحترام هذا الكائن البشري وإدراكه، الذي وهبه له الخالق المنان. يعرض عليهم الاحتكام في أمر القرآن إلى إدراكهم هم وتدبر عقولهم.. ويعين لهم منهج النظر الصحيح؛ كما يعين لهم الظاهرة التي لا تخطئ إذا اتبعها ذلك المنهج. وهي ظاهرة واضحة كل الوضوح في القرآن من جهة؛ ويمكن للعقل البشري إدراكها من جهة أخرى.. ودلالتها على أنه من عند الله دلالة لا تمارى:
{أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا}.
وفي هذا العرض، وهذا التوجيه، منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيته- كما قلنا- كما أن فيه منتهى النصفة في الاحتكام إلى هذا الإدراك في ظاهرة لا يعييه إدراكها. وهي في الوقت ذاته ذات دلالة- كما أسلفنا- لا تمارى!
والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبدًا.. ومستوياتها ومجالاتها، مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها. ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها- بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه- ما يملك إدراكه، في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى.
ومن ثم فإن كل أحد، وكل جيل، مخاطب بهذه الآية. ومستطيع- عند التدبر وفق منهج مستقيم- أن يدرك من هذه الظاهرة- ظاهرة عدم الاختلاف، أو ظاهرة التناسق- ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه.
وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه، وتملك التحقق منه بإدراكها في حدودها الخاصة.
تتجلى هذه الظاهرة ظاهرة. عدم الاختلاف.. أو ظاهرة التناسق.. ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية.. ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح؛ التوفيق والتعثر. القوة والضعف. التحليق والهبوط. الرفرفة والثقلة. الإشراق والانطفاء.. إلى آخر الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر. وأخصها سمة «التغير» والاختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال. يبدو ذلك في كلام البشر، واضحًا عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد، أو المفكر الواحد، أو الفنان الواحد، أو السياسي الواحد، أو القائد العسكري الواحد.
أو أيٍّ كان في صناعته؛ التي يبدو فيها الوسم البشري واضحًا.. وهو: التغير، والاختلاف.
هذه الظاهرة واضح كل الوضوح أن عكسها وهو: الثبات، والتناسق، هو الظاهرة الملحوظة في القرآن- ونحن نتحدث فقط عن ناحية التعبير اللفظي والأداء الأسلوبي- فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز- تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها- ولكن يتحد مستواه وأفقه، والكمال في الأداء بلا تغير ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى.. كما هو الحال في كل ما يصنع الإنسان.. إنه يحمل طابع الصنعة الإلهية؛ ويدل على الصانع. يدل على الموجود الذي لا يتغير من حال إلى حال، ولا تتوالى عليه الأحوال!.
وتتجلى ظاهرة عدم الاختلاف.. والتناسق المطلق الشامل الكامل.. بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحمله العبارات. ويؤديه الأداء.. منهج التربية للنفس البشرية- والمجتمعات البشرية- ومحتويات هذا المنهج وجوانبه الكثيرة- ومنهج التنظيم للنشاط الإنساني للأفراد- وللمجتمع الذي يضم الأفراد وشتى الجوانب والملابسات التي تطرأ في حياة المجتمعات البشرية على توالي الأجيال- ومنهج التقويم للإدراك البشري ذاته وتناول شتى قواه وطاقاته وإعمالها معًا في عملية الإدراك!- ومنهج التنسيق بين الكائن الإنساني بجملته- في جميع مجتمعاته وأجياله ومستوياته- وبين هذا الكون الذي يعيش فيه؛ ثم بين دنياه وآخرته؛ وما يشتجر في العلاقة بينهما من ملابسات لا تحصى في عالم كل فرد؛ وفي عالم الإنسان وهو يعيش في هذا الكون بشكل عام.
وإذا كان الفارق بين صنعة الله وصنعة الإنسان واضحًا كل الوضوح في جانب التعبير اللفظي والأداء الفني، فإنه أوضح من ذلك في جانب التفكير والتنظيم والتشريع. فما من نظرية بشرية، وما من مذهب بشري، إلا وهو يحمل الطابع البشري.. جزئية النظر والرؤية.. والتأثر الوقتي بالمشكلات الوقتية.. وعدم رؤية المتناقضات في النظرية أو المذهب أو الخطة؛ التي تؤدي إلى الاصطدام بين مكوّناتها- إن عاجلًا وإن آجلًا- كما تؤدي إلى إيذاء بعض الخصائص في الشخصية البشرية الواحدة التي لم يحسب حساب بعضها؛ أو في مجموعة الشخصيات الذين لم يحسب حساب كل واحدة منها.. إلى عشرات ومئات من النقائص والاختلاف، الناشئة من طبيعة الإدراك البشري المحدود، ومن الجهل البشري بما وراء اللحظة الحاضرة، فوق جهله بكل مكونات اللحظة الحاضرة- في أية لحظة حاضرة!- وعكس ذلك كله هو ما يتسم به المنهج القرآني الشامل المتكامل، الثابت الأصول؛ ثبات النواميس الكونية؛ الذي يسمح بالحركة الدائمة- مع ثباته- كما تسمح بها النواميس الكونية!
وتدبر هذه الظاهرة، في آفاقها هذه، قد لا يتسنى لكل إدراك، ولا يتسنى لكل جيل. بل المؤكد أن كل إدراك سيتفاوت مع الآخر في إدراكها؛ وكل جيل سيأخذ بنصيبه في إدراكها ويدع آفاقًا منها للأجيال المترقية، في جانب من جوانب المعرفة أو التجربة.
إلا أنه يتبقى من وراء كل الاختلاف البشري الكثير في إدراك هذه الظاهرة- كاختلافه الكثير في كل شيء آخر!- بقية يلتقي عليها كل إدراك، ويلتقي عليها كل جيل.. وهي أن هذه الصنعة شيء وصنعة البشر شيء آخر. وأنه لا اختلاف في هذه الصنعة ولا تفاوت، وإنما وحدة وتناسق.. ثم يختلف الناس بعد ذلك ما يختلفون في إدراك آماد وآفاق وأبعاد وأنواع ذلك التناسق!
وإلى هذا القدر الذي لا يخطئه متدبر- حين يتدبر- يكل الله تلك الطائفة، كما يكل كل أحد، وكل جماعة، وكل جيل. وإلى هذا القدر من الإدراك المشترك يكل إليهم الحكم على هذا القرآن؛ وبناء اعتقادهم في أنه من عند الله. ولا يمكن أن يكون من عند غير الله.
ويحسن أن نقف هنا وقفة قصيرة، لتحديد مجال الإدراك البشري في هذا الأمر وفي أمر الدين كله. فلا يكون هذا التكريم الذي كرمه الله للإنسان بهذا التحكيم، سبيلًا إلى الغرور، وتجاوز الحد المأمون؛ والانطلاق من السياج الحافظ من المضي في التيه بلا دليل!
إن مثل هذه التوجيهات في القرآن الكريم يساء إدراكها، وإدراك مداها. فيذهب بها جماعة من المفكرين الإسلاميين- قديمًا وحديثًا- إلى إعطاء الإدراك البشري سلطة الحكم النهائية في أمر الدين كله. ويجعلون منه ندًا لشرع الله. بل يجعلونه هو المسيطر على شرع الله!
الأمر ليس كذلك.. الأمر أن هذه الأداة العظيمة- أداة الإدراك البشري- هي بلا شك موضع التكريم من الله- ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى: حقيقة أن هذا الدين من عند الله. لأن هناك ظواهر يسهل إدراكها؛ وهي كافية بذاتها للدلالة- دلالة هذا الإدراك البشري ذاته- على أن هذا الدين من عند الله.. ومتى أصبحت هذه القاعدة الكبيرة مسلمًا بها، أصبح من منطق هذا الإدراك ذاته أن يسلم- بعد ذلك- تلقائيًا بكل ما ورد في هذا الدين- لا يهم عندئذ أن يدرك حكمته الخفية أو لا يدركها. فالحكمة متحققة حتمًا ما دام من عند الله. ولا يهم عندئذ أن يرى «المصلحة» متحققة فيه في اللحظة الحاضرة. فالمصلحة متحققة حتمًا ما دام من عندالله.. والعقل البشري ليس ندًا لشريعة الله- فضلًا على أن يكون الحاكم عليها- لأنه لا يدرك إلا إدراكًا ناقصًا في المدى المحدود؛ ويستحيل أن ينظر من جميع الزوايا وإلى جميع المصالح- لا في اللحظة الواحدة ولا في التاريخ كله- بينما شريعة الله تنظر هذه النظرة؛ فلا ينبغي أن يكون الحكم فيها، أو في حكم ثابت قطعي من أحكامها موكولًا إلى الإدراك البشري.
وأقصى ما يتطلب من الإدراك البشري أن يتحرى إدراك دلالة النص وانطباقه؛ لا أن يتحرى المصلحة أو عدم المصلحة فيه! فالمصلحة متحققة أصلًا بوجود النص من قبل الله تعالى.. إنما يكون هذا فيمالآنص فيه، مما يجدّ من الأقضية؛ وهذا سبق بيان المنهج فيه، وهو رده إلى الله والرسول.. وهذا هو مجال الاجتهاد الحقيقي. إلى جانب الاجتهاد في فهم النص، والوقوف عنده، لا تحكيم العقل البشري في أن مدلوله يحمل المصلحة أو لا يحملها!!! إن مجال العقل البشري الأكبر في معرفة نواميس الكون والإبداع في عالم المادة.. وهو ملك عريض!!!
يجب أن نحترم الإدراك البشري بالقدر الذي أراده الله له من التكريم في مجاله الذي يحسنه- ثم لا نتجاوز به هذا المجال. كي لا نمضي في التيه بلا دليل. إلا دليلًا يهجم على ما لا يعرف من مجاهل الطريق.. وهو عندئذ أخطر من المضي بلا دليل!!!
ويمضي السياق يصور حال طائفة أخرى. أو يصف فعلة أخرى لطائفة في المجتمع المسلم: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به. ولوردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم. ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا}.
والصورة التي يرسمها هذا النص، هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي، لم تألف نفوسهم النظام؛ ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر؛ وفي النتائج التي تترتب عليها، وقد تكون قاصمة؛ لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث؛ ولم يدركوا جدية الموقف؛ وأن كلمة عابرة وفلتة لسان، قد تجر من العواقب على الشخص ذاته، وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال؛ وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال! أو- ربما- لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر؛ وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك، وإذاعتها، حين يتلقاها لسان عن لسان. سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف.
فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة!- فإن إشاعة أمر الأمن مثلًا في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو.. إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعًا من التراخي- مهما تكن الأوامر باليقظة- لأن اليقظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر! وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية! كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة. وقد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكًا، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف.. وقد تكون كذلك القاضية!
وعلى أية حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه؛ أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته.
أو هما معًا.. ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجتمع المسلم حينذاك؛ باحتوائه على طوائف مختلفة المستويات في الإيمان، ومختلفة المستويات في الإدراك، ومختلفة المستويات في الولاء... وهذه الخلخلة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرباني.
والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح:
{ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}.